لم يكن الأسد حاكمًا فقط… كان تاجرًا من نوع آخر، يبيع كرامة الشعب بالجملة، ويقايض دماء السوريين بصفقات السلطة. في دولة البعث، لم تكن السوق حرة، بل كانت عبودية منظمة بيد نخبة موالية، شكّلها النظام وزرعها في كل زاوية من الاقتصاد السوري، وسمح لها بنهب البلاد تحت غطاء الوطنية والانتماء. وفي خضم هذه المأساة، لم يكن المواطن السوري سوى الحلقة الأضعف، محاصرًا بين قبضة السلطة وجلادي المال. هذا المقال يدخل في عمق أحد أقذر التحالفات في تاريخ سوريا الحديث: تحالف السلطة مع التجار ضد الشعب، وكيف استُنسخ هذا التحالف حتى في مجتمعات اللجوء.
1. تحالف السلطة والمال: بدايات الفساد البنيوي
منذ السبعينات، بدأ الأسد الأب بتشكيل نواة طبقة تجارية مرتبطة مباشرة بأجهزة الأمن والبعث، تُمكنه من ضبط السوق، وتجعل أي تاجر غير موالٍ عرضة للتهديد، السجن أو الإفلاس. فتح لهم الباب للاستيراد والتصدير، لكن بشرط وحيد: الولاء الكامل.
2. منع دخول البضائع الأجنبية: حصار اقتصادي داخلي لمصلحة القلة
تم اعتماد سياسات منع الاستيراد للبضائع المنافسة لمنتجات التجار الموالين، ما أدى إلى سيطرة هؤلاء على السوق، ورفع الأسعار بشكل جنوني دون رقابة. المواطن السوري دفع الثمن عبر فقدان قدرته الشرائية، بينما تضخمت ثروات الحيتان.
3. التاجر الوطني الموالي مقابل المواطن الجائع
عُرفت عبارة "التاجر الوطني" كوسيلة دعائية لشرعنة الفساد. كانت تُطلق على من يوزع تبرعات على المخابرات، ويشتري صمت أجهزة الرقابة. هؤلاء احتكروا القوت والأسواق، في حين غرق عامة الناس بالفقر والعوز.
---
4. تجار حلب قبل الثورة: نخبة صناعية تُقصى باسم الولاء
حلب، العاصمة الاقتصادية، كانت تضم نخبة صناعية منفتحة وكفؤة. لكن الأسد الأب ركّز على تحجيمهم، وتمكين تجار مرتبطين بالنظام، ما أدى إلى قتل روح المنافسة، وتحويل الصناعي إلى تابع أمني.
5. أمراء المال في حلب: شراكة مع النظام ضد المدينة
أسماء كبيرة في عالم المال الحلبي ظهرت، ليس بالكفاءة، بل بالعلاقات. تحوّل بعضهم إلى ممولين لحملات الشبيحة، وداعمي غرف التعذيب. ولاؤهم لم يكن للمدينة، بل للنظام.
6. تدمير الصناعة بعد الثورة: عقوبة جماعية
بعد اندلاع الثورة، كان الانتقام من حلب ممنهجًا. تم تفكيك المصانع، نقلها وبيعها في أسواق الخارج. بعض التجار نفسهم كانوا وسطاء في هذا التخريب.
7. تجار الحرب: من بائع صغير إلى ممول للقتل
برزت طبقة جديدة من "تجار الحرب" – أشخاص بدأوا ببيع الخبز أو الوقود، ثم أصبحوا أثرياء بسبب علاقتهم مع الميليشيات والأفرع الأمنية. كانوا الوجه المالي للقمع.
8. الطبقة الجديدة: رماد المال والدم
هذه الطبقة تزوجت من السلطة، ولبست ثوب الوطنية، لكنها لم تكن سوى وجه آخر للطغيان. المال الذي تكدس في أيديهم كان مبنيًا على رماد مدن كاملة.
---
9. جمارك خيالية… وطن يُنهب باسم القانون
الجمارك في سوريا لم تكن وسيلة تنظيم، بل سلاح استنزاف. كانت تُفرض ضرائب ضخمة على البضائع الأساسية، في حين تمر شحنات الفاسدين دون دفع قرش. كانت الدولة تسرق شعبها رسميًا.
10. في تركيا: سلوك التاجر الطفيلي في أسواق اللاجئين
في بيئات اللجوء التركية، حمل البعض هذا الإرث. ظهر تجار يستغلون حاجة السوريين، يحتكرون الإيجارات، يرفعون الأسعار، ويبيعون على أهلهم بأسعار مضاعفة، كما فعلوا في سوريا.
11. في ألمانيا: من النظام إلى السوق السوداء
في ألمانيا، تمسك البعض بذهنية الربح السريع، فهربوا من الضرائب، واشتغلوا بالأسود، غير آبهين بالنظام القانوني. هذا التمرد على المؤسسات كان استنساخًا لسلوكيات ما قبل اللجوء.
12. العمل الأسود في تركيا: خداع القانون
كثير من السوريين في تركيا اشتغلوا دون عقود لتفادي اقتطاع الضرائب، بهدف ضمان استمرار الحصول على كرت الهلال الأحمر، أو مساعدات البلديات. هذا السلوك وإن كان ناتجًا عن الحاجة، إلا أنه يعكس جذور أزمة أعمق.
13. التهرب الضريبي في ألمانيا: فساد يُعاد تدويره
العمل في السوق السوداء في ألمانيا لم يكن بسبب الحاجة فقط، بل بسبب عقلية مكتسبة تعتبر التحايل على الدولة شطارة. كثير من اللاجئين لم يدركوا أنهم أمام دولة تحترم العقد والقانون.
إن تحالف نظام الأسد مع نخبة من التجار لم يكن مجرد فساد اقتصادي، بل خيانة وطنية ممنهجة. لقد دُفعت سوريا نحو المجاعة، والتشرد، والفوضى، لا بسبب الحرب فقط، بل لأن الأسد صنع من اللصوص نخبة، ومن الجشع وطنية. وحين هرب السوريون من الجحيم، حمل بعضهم هذا الإرث معهم، ليعيدوا إنتاج الخراب في المجتمعات الجديدة. إن كشف هذا التاريخ ليس نكاية، بل محاولة لفهم الكارثة من جذورها، كي لا تتحول أي ثورة إلى كذبة جديدة، وكي لا يُلدغ السوري من نفس الجُحر مرارًا، باسم الوطن مرة، وباسم الدين أو المال مرات.
تعليقات
إرسال تعليق