القائمة الرئيسية

الصفحات

إرث الأسد البائد – الجزء العاشر: تهميش الإنسان وتحطيم طاقاته

لم يكن نظام الأسد مجرد نظامٍ قمعي بالهراوة والسجن، بل كان آلةً عميقة لتكسير الإنسان، وتجفيف منابع المبادرة، وتمزيق ثقة الفرد بذاته. من الشاب المتفوق الذي يُهزأ به في الجامعات، إلى الموظف النزيه الذي يُقصى ويُستبدل بـ"الرفيق البعثي" الفاسد، إلى المرأة التي حُوصرت بين أقداح الشاي ومواعين المطبخ، كان الأسد الأب ومن بعده الابن يعملان ببطء وخبث على هندسة مجتمع مكسور، لا يؤمن بنفسه، ولا يحترم كفاءاته، ولا يملك تصورًا عن الكرامة الفردية. لقد عمل هذا النظام على محو الإنسان السوري الحقيقي، وزرع مسخٍ خانع مكانه، ثم تركه ليهاجر إلى دول اللجوء حاملاً معه كل العقد والأمراض النفسية والاجتماعية، ليُصبح مشكلة لاجئ وعالة، بدلًا من أن يكون فرصة أو ثروة.


---

1. تهميش المؤسسات الحكومية وتفريغها من دورها الوطني

تحوّلت الوزارات والمؤسسات السورية إلى مقابر للبيروقراطية، وإقطاعيات للبعثيين والمتنفذين. لم يعد يُنظر للمؤسسة كأداة لخدمة الشعب، بل كبوابة للنهب، ووسيلة لتكريس الولاء للنظام. كان الموظف المثابر يُقصى، بينما يُكافأ المرتشي والمتسلق.

الوزارات أصبحت ممتلكات خاصة لأمراء الحزب، والخدمات تُوزع بحسب المحسوبيات. مستشفيات الدولة مثال صارخ على ذلك: الطبيب الكفؤ يُهمّش إذا لم يكن بعثيًا، والمعدات الطبية تُسرق لصالح العيادات الخاصة.

بهذا الشكل، فقد المواطن ثقته بكل ما هو رسمي، وبدأت الدولة تُشبه العصابة أكثر من كونها كيانًا عامًا.


---

2. قتل روح المبادرة لدى الشباب المتعلم وتحويلهم إلى نكتة

"معك دكتوراه؟ روح سوق تاكسي"، "مهندس؟ روح اشتغل مقاول بلا شهادة"، هذه العبارات صارت واقعًا مألوفًا في سوريا الأسد. الشباب المتعلم يُعامل كمصدر تهديد، وليس كمستقبل للوطن. النظام يفضّل الجاهل المطيع على المتعلم الجريء.

العقل النقدي يُقمع، والإبداع يُكتم، والمبادرات تُجهض في مهدها. أما فرص التوظيف فمربوطة بالولاء، لا بالكفاءة.

هكذا نشأت أجيال محبطة، ترى في الهجرة خلاصًا لا بديل عنه.


---

3. المرأة السورية بين الاستغلال والتهميش

تحوّلت المرأة السورية إلى سلعة، مهرها يحدد قيمتها، وزواجها يُقدم كمنقذ من العار. الإعلام البعثي روّج للمرأة كأداة للزينة والخدمة، بينما واقع الحال كان أشد قسوة: تزويج مبكر، حرمان من التعليم، عنف منزلي مغطّى بالصمت.

المرأة القادرة على القيادة والتأثير، تم تجاهلها لصالح "الزوجة الصالحة والمطيعة". لم يكن هناك مشروع حقيقي لتمكين المرأة، بل شعارات جوفاء بينما تُسلخ حقوقها.


---

4. التجهيل الممنهج للشعب عبر الإعلام والتعليم

منذ الطفولة، يُلقَّن الطفل السوري أن الأسد هو القائد المعلم، والبعث هو الحزب الخالد. مناهج تعليمية مفخخة بالأكاذيب، وخالية من أي تفكير نقدي.

الإعلام الرسمي مارس التضليل لعقود، بينما كانت المدارس تُنتج نسخًا مكررة من المواطن الخانع، لا المفكر أو المبدع.

بالتالي، أصبح الشعب مشلول الذهن، عاجزًا عن المحاسبة أو الحلم بالتغيير.


---

5. كيف حمل اللاجئون هذا الإرث معهم إلى دول اللجوء؟

حين خرج السوريون إلى أوروبا وتركيا، حملوا معهم ليس فقط أوجاع الحرب، بل ميراثًا طويلًا من اللامبالاة والإحباط والعقلية الذكورية.

كثيرون فقدوا الثقة بأنفسهم، حتى وسط بيئة جديدة تعطيهم فرصًا متساوية. لاجئون جامعيون يعملون في التنظيف أو البناء، لأنهم لا يصدقون أنهم يستحقون أفضل.

العائلات ما زالت تحاصر بناتها بالعار، وتقيّم أبناءها بحسب قدرتهم على السيطرة لا على التفوق.


---

6. تركيا: مأساة اللاجئ بين طاقات مهدورة ومجتمع لا يرى إلا صورة نمطية

رغم انفتاح تركيا على بعض اللاجئين، إلا أن غالبية السوريين يعانون من صدمة التهميش المستمر. الشهادات لا تُعادل، والطاقة تُهدر في مهن هامشية.

النساء يعانين من التمييز الداخلي، والشباب يهربون من المراكز التعليمية نحو العمل المبكر لتأمين لقمة العيش.

التعليم يُهمَل مجددًا، تمامًا كما في سوريا، لأن الأسرة نفسها لم تعتد أن تؤمن بقيمته.


---

7. أوروبا: صدمة المساواة وارتباك الذكورية السورية

في أوروبا، اصطدمت الذكورية السورية بجدار القانون. لم يعد من المسموح ضرب الزوجة أو السيطرة على البنت. فهرب كثيرون إلى مجتمعاتهم المغلقة.

المتعلمون السوريون في أوروبا يواجهون صراعًا بين قيم تربوا عليها، وقيم جديدة تفرض احترام الفرد وحقوق المرأة.

لكن الغالب أن الإرث الغائر من سوريا يتغلب، ويُعيد إنتاج نفسه داخل الجاليات.


---

8. بين الحلم والواقع: هل يمكن تجاوز إرث التهميش؟

هناك أمل. في كل دولة لجوء، سوريون كسروا القيد، وبدأوا من جديد. نساء أسسن منظمات، شباب أبدعوا في البرمجة، معلمون أصبحوا ناشطين. التغيير ممكن.

لكنه يبدأ من الاعتراف: أن ما نحمله من سوريا هو مرض يجب مواجهته، لا مفخرة. ومن العمل: على الأسرة، وعلى التعليم، وعلى بناء مجتمع جديد لا يشبه الماضي.


---

الخاتمة النارية:

لقد ورّثنا الأسد وطنًا محطمًا، لكنه لم يُفلح تمامًا في تحطيم الإنسان السوري. رغم الألم، رغم الفساد، رغم الذل، ما زالت هناك شعلة مقاومة في قلوب الكثيرين. لكن المقاومة اليوم ليست بالبندقية، بل بكتاب، بامرأة تُكمل تعليمها، بشاب يرفض الرشوة، بمواطن يطالب بحقه.

إرث الأسد البائد ليس قدرًا، بل لعنة علينا أن نكسرها، صفحةً بعد صفحة، وصرخةً بعد صرخة. والبدء... من الإنسان.

تعليقات

محتوى الصفحة