القائمة الرئيسية

الصفحات

إرث الأسد البائد - الجزء التاسع: تفكيك الهوية السورية وتعزيز المناطقية والطائفية

وطنٌ بلا وجه، شعبٌ بلا هوية

حين تُصبح صورة الزعيم أهم من خريطة الوطن، وحين تُستبدل الهوية الوطنية برايات حزبية وشعارات مناطقية، يصبح تفكيك الدولة حالة نفسية جماعية أكثر من كونه فعلاً سياسياً. هكذا كانت سوريا تحت حكم آل الأسد: مسرحاً لحرب صامتة ضد كل ما هو وطني جامع، وحقل تجارب للتفتيت المجتمعي عبر الطائفية والمناطقية والعشائرية.

لم تكن هذه الظواهر وليدة الحرب، بل كانت مبرمجة منذ السبعينيات، حين بدأت ماكينة البعث بحشو العقول الطرية بفكرة أن الوطن ليس أرضًا وشعبًا، بل هو "القائد إلى الأبد". جرى سلخ المواطن السوري عن تاريخه وهويته وانتمائه، واستُبدلت مفردات الوطنية الصادقة بمصطلحات جوفاء، صُنعت في أقبية المخابرات.


---

المحور الأول: البعث وطمس الهوية الوطنية لصالح الزعيم

منذ تسلمه السلطة، سعى حافظ الأسد لتذويب الهوية الوطنية الجامعة وتحويلها إلى هوية شخصية تدور في فلكه. ألغى كل الرموز الوطنية التي سبقت عهده، فاختفت أسماء يوسف العظمة، وسعد الله الجابري، وإبراهيم هنانو من كتب التاريخ، وظهرت بدلاً منها أناشيد تمجّد الأسد والبعث. أصبح الولاء للحزب أهم من الانتماء للوطن، وغُيبت أي سردية وطنية مشتركة توحد السوريين.


---

المحور الثاني: المناطقية والطائفية كأدوات للسيطرة

حكم الأسد الأب البلاد عبر سياسة "فرق تسد"، فاحتكر الطائفة العلوية قيادة الجيش والمخابرات، وهمش أبناء المحافظات الثائرة تاريخياً كحماة ودير الزور ودرعا. دعم قرى ومناطق محددة على حساب أخرى، وغذى الصراع بين "أهل الشام" و"أهل حلب"، واحتقر الريف وأبناء العشائر علناً وسراً. هذه التفرقة رسّخت شرخاً اجتماعياً عميقاً ما زال يلقي بظلاله على الحاضر.


---

المحور الثالث: العشائرية كسلاح بيد النظام لا كتراث اجتماعي

تحول شيوخ العشائر من رموز مجتمعية إلى أدوات في يد النظام. دعمت المخابرات زعامات عشائرية موالية، ومولت نزاعات قبلية لتفتيت أي اصطفاف وطني. ومع الوقت، فقدت العشائر هويتها وكرامتها، وصار كثير من أفرادها أدوات في حملات التشبيح والفساد.


---

المحور الرابع: تفكيك الهوية في وجدان الطفل السوري

في المدارس، لم يكن الوطن حاضراً إلا من خلال تمجيد الأسد. الأطفال يُلقنون منذ الحضانة أن القائد هو الوطن، وأن حزب البعث هو الراعي والحامي. غابت دروس المواطنة الحقيقية، وظهرت أناشيد التمجيد الفردي، مثل "قائدنا إلى الأبد"، مما حوّل المدرسة إلى مصنع للولاء الشخصي لا الوطني.


---

المحور الخامس: المناطقية داخل سوريا قبل الثورة وبعدها

قبل الثورة، كانت دمشق مدللة الدولة، بينما دير الزور تعاني الإهمال. كانت حلب اقتصاداً، وإدلب مهمشة، وكانت السويداء تحظى بحماية أمنية خاصة، بينما تُقصف حماة بالصمت. بعد اندلاع الثورة، تحولت المناطقية إلى أداة للتخوين: "الحلبي متخاذل"، "الدرعاوي بطل"، "الدمشقي انتهازي". وحتى في زمن المعارضة، بقيت هذه النعرات تحكم العلاقات والتحالفات.


---

المحور السادس: اللاجئون وحملهم لهذا الإرث السام

حين خرج السوريون إلى الشتات، لم يخلعوا عنهم عباءة الطائفية والمناطقية. في تركيا، انفصل السوريون في تجمعات بحسب محافظاتهم. في ألمانيا، باتت الجمعيات والمنتديات تُبنى على أساس مناطقي وطائفي، لا وطني. بدلاً من أن يتوحدوا ضد النظام، تفرقوا على موائد الشتات كما كانوا في حضن الأسد.


---

المحور السابع: تفكك الجالية السورية في الشتات بسبب هذا الإرث

في تركيا، يتحدث اللاجئ عن ابن منطقته بثقة، ويخون ابن منطقة أخرى بلا دليل. في ألمانيا، تُبنى مشاريع اللاجئين على القربى لا الكفاءة، والجميع يشك بالجميع. تتصارع الجمعيات في برلين وإسطنبول، كما لو أن الحرب لم تنته بعد. هذا الانقسام هو استمرار للإرث البعثي لا للثورة.


---

المحور الثامن: الإعلام المعارض واستمرار المناطقية والطائفية

لم ينجُ الإعلام المعارض من هذا المرض. بعض القنوات تتحدث فقط عن الشمال، وأخرى عن الغوطة. تعظيم مناطق على حساب أخرى، وكأن الثورة كانت حكراً على محافظات معينة. لا صوت موحد، لا خطاب وطني، بل استمرار لصوت الفرق والمناطق لا للوطن.


---

الخاتمة: لن نُشفى قبل أن نعترف بالداء

سوريا اليوم ليست فقط خرابًا عمرانيًا، بل خراب هوياتي عميق. لا نهوض من هذا الركام قبل أن نبدأ بمراجعة ذاتنا كسوريين. لم يورّثنا الأسد الفساد فقط، بل مزق روحنا الوطنية. إن أول خطوة للتحرر ليست إسقاط النظام فحسب، بل إسقاط ما غرسه في عقولنا وقلوبنا من عنصرية ومناطقية وطائفية.

لن تُبنى سوريا من جديد ما لم نعد تعريف الوطن: ليس قرية ولا طائفة ولا زعيم، بل شعب واحد، وهوية واحدة، وأرض واحدة.

تعليقات

محتوى الصفحة