مقدمة:
كيف تُقتل أمة من مقاعد الدراسة؟
لم تكن الدبابات وحدها من اجتاحت سوريا، ولم تكن المعتقلات هي الوحيدة التي سحقت الأرواح. بل كان هناك سلاح أكثر خبثًا، وأقل ضجيجًا، وأكثر فتكًا: سلاح التعليم المؤدلج. في بلدٍ احتكر فيه النظام كل أشكال السلطة، لم يُترك مجالٌ للعقل كي يتنفس، بل جرى تدجينه منذ نعومة أظافره، في صفوف مدارس تحولت إلى معسكرات صامتة، يخرج منها التلميذ وقد تعلم أن الطاعة فضيلة، وأن السؤال خيانة.
حين تتحول المدرسة إلى مصنع لإنتاج القطيع، فإنك لا تحصل على أجيال متعلمة، بل على شعوب لا تعرف كيف تقول "لا". هذا هو جوهر المشروع الذي تبناه حافظ الأسد، وأورثه لابنه بشار: تحويل التعليم من محرّك للتقدم إلى وسيلة لتثبيت القمع. لقد كانت المدرسة أولى حلقات التدجين، والطفل السوري أولى ضحاياه.
طفولة مغتصبة تحت رايات التمجيد
أي عقل يمكن أن يتفتح في بيئة يغيب فيها العقل النقدي؟ أي وعي يمكن أن يولد في كراسٍ يُكتب عليها: "قائدنا إلى الأبد" قبل أن يتعلم الطفل كتابة اسمه؟ كيف يمكن أن نبني وطنًا حين نُعلّم أبناءه أن الحقيقة تُختصر في صورة معلقة على الجدار، وأن التاريخ يبدأ وينتهي عند تمجيد "السيد الرئيس"؟
لم يكن التعليم السوري تعليمًا، بل عقيدة سياسية مغلفة بكتب مدرسية. تم نزع الروح من كل مادة: فالتاريخ أصبح ملحمة بطولية للنظام، والجغرافيا سلاحًا لتمجيد "وحدة التراب العربي" التي لم يعرف منها الطفل سوى شعار أجوف، وحتى الرياضيات لم تسلم من استخدام الأرقام في خدمة أرقام انتصارات وهمية.
منذ الطفولة، يُعلَّم الطفل السوري أن يسكت، أن يتلو لا أن يبدع، أن يحفظ لا أن يفهم. ومع كل عام دراسي، يُضاف قيد جديد إلى عقله، حتى يُصبح الجهل خيارًا أيسر من المعرفة، لأن المعرفة في ظل النظام جريمة.
من التعليم إلى التسرب... إلى الاستعباد
ومع انهيار بنية الدولة في ظل الفساد والفساد المضاد، ومع تآكل الاقتصاد وهروب التعليم من أولويات الدولة، بدأت تتشكل ظاهرة التسرب المدرسي بشكل واسع. لم تكن مدارس الريف تجد من يُدرّس، ولا من يُراقب، ولا من يُحاسب. الأطفال هجروا الصفوف نحو أرصفة العمل، ومزارع التسخير، وورش العبودية.
لم يكن هذا عرضًا جانبيًا، بل نتاجًا طبيعيًا لنظام لا يرى في الإنسان قيمة. الطفل الذي يتسرب من التعليم يُعتبر "خارج اللعبة"، لم يعد يشكل تهديدًا، ولم يعد بحاجة إلى ترويض. بل على العكس: كلما زاد الجهل، زاد الخنوع. وهكذا نشأ جيل مسحوق، لا يملك الأدوات التي تمكّنه من التفكير في مستقبل أفضل، لا في وطنه ولا في منفى فرض عليه أن يواجه حياة لا يعرف كيف يبدأها.
حين تسافر الكارثة إلى المنفى
النكبة لم تبقَ في حدود الجغرافيا السورية. حين خرج اللاجئون، خرجت معهم أزماتهم، وفي مقدمتها أزمة التعليم. الطفل السوري الذي لم يتلقَّ تعليمًا في وطنه، لم يكن مستعدًا لمدرسة ألمانية أو تركية تطلب منه أن يناقش، أن يكتب رأيه، أن يشارك في صناعة قراره. الصدمة كانت ثقافية ونفسية.
وفي بعض المناطق، تحوّلت هذه الأزمة إلى أداة تمييز جديدة. من طفل سوري يعمل في معمل نسيج بتركيا، إلى تلميذ مشاغب في صف ألماني لا يعرف أبسط قواعد النظام. نظرة المجتمع المضيف بدأت تتغير، لا لأن الطفل مذنب، بل لأنه نتاج جريمة تعليمية ارتكبها نظام ضد شعبه.
وهكذا، لم يكن التعليم السوري مجرد فشل، بل كان مؤامرة على وعي الأمة، ولا تزال آثارها تتردد في المدارس، وفي المصانع، وفي مخيمات اللجوء، وفي نظرات الاحتقار التي تواجه السوري حين يُختصر في صورة "الجاهل الفقير".
المحور الأول: البعث والتعليم... احتكار العقل الوطني
منذ استيلاء حزب البعث على السلطة عام 1963، بدأ مشروع السيطرة على المناهج التربوية، وقد تُوِّج ذلك في عهد حافظ الأسد ثم بشار. أُعيدت صياغة كتب التاريخ والتربية القومية لتُحوّل كل حدث تاريخي إلى تمجيد للحزب والقيادة. لم تُترك فرصة لطرح أي رأي آخر، ولا مساحة لتعددية فكرية. التلميذ السوري تلقى رسائل مباشرة: القائد لا يُنتقد، الحزب لا يُسأل، الوطن لا يُفهم إلا من خلال عدسة البعث.
كتاب "التربية القومية" مليء بصور القائد وشعاراته.
كتب التاريخ تُهمّش فاعلية الشعوب والثورات وتُضخّم دور الحزب فقط.
مقررات الفلسفة غُيِّبت منها مدارس التفكير الحر والمنطق النقدي.
المحور الثاني: التعليم كأداة للضبط الأمني
لم تكن المدرسة منفصلة عن أجهزة الدولة الأمنية. الموجهون والمدرسون خاضعون لرقابة فرع الحزب. كثير من الطلاب تعرضوا للطرد أو التهديد لمجرد النقاش في مواضيع "غير مرغوب بها". الجامعات كانت مرتعًا للمخبرين، حيث يُكتب تقارير عن كل من "يتفلسف" خارج الحدود المرسومة.
الاعتقال الجامعي ظاهرة موثقة من بداية الألفية.
طلاب جرى اعتقالهم أو فصلهم بسبب كتابات على فيسبوك أو مناقشات صفية.
المحور الثالث: تسرب التعليم وظهور عمالة الأطفال
مع بداية الألفية، ومع ارتفاع معدلات الفقر والفساد، بدأ الأطفال يتسربون من المدارس بشكل غير مسبوق، خاصة في الأرياف والضواحي. لم تقم الدولة بأي خطة إنقاذ حقيقية، بل اكتفت بتقارير شكلية. وتحوّل الطفل السوري إلى عامل في سوق البناء، أو مزارع، أو مساعد في متجر.
تقرير اليونيسف 2010 أشار إلى أن أكثر من 20% من الأطفال لم يُكملوا التعليم الأساسي.
غالبية المتسربين انخرطوا في سوق العمل بلا أي تأهيل.
المحور الرابع: ما بعد الثورة... انهيار البنية التعليمية
بعد 2011، دخلت سوريا في حالة فوضى تعليمية. المدارس دُمِّرت، والمعلمون هُجّروا، والمناهج أصبحت أدوات للصراع السياسي بين النظام والمعارضة. الأطفال في مناطق النظام استمروا في تلقّي نفس المناهج المؤدلجة، في حين افتقرت مناطق المعارضة للبنية الأساسية أصلاً.
أكثر من 7000 مدرسة خرجت عن الخدمة (حسب تقرير الأمم المتحدة 2022).
ضعف البنية التحتية أدى إلى توقف تعليم أكثر من 2.4 مليون طفل.
المحور الخامس: صدمة التعليم في دول اللجوء
حين خرج السوريون إلى تركيا وأوروبا، واجهوا صدمة جديدة: أنظمة تعليمية تختلف جذريًا عن المفهوم السوري. الطفل الذي تعلّم أن لا يفتح فمه، أصبح عليه أن يناقش ويشارك في بيئة ديمقراطية. هذا لم يكن سهلاً، خاصة مع التراكمات النفسية والفكرية.
تقرير "Save the Children" 2023 أظهر أن 61% من الأطفال السوريين في تركيا يعانون صعوبات في الاندماج المدرسي.
في ألمانيا، تواجه العائلات السورية تحديات تتعلق بالاختلاف الثقافي ومنهجية التعليم.
المحور السادس: النظرة الدونية للجالية السورية
نتيجة ما سبق، بدأت تظهر نظرة دونية لبعض أفراد المجتمعات المضيفة تجاه السوريين، خاصة حين يُرى أطفالهم خارج المدارس أو يعملون في أعمال شاقة. الإعلام ساهم أحيانًا في ترسيخ هذه الصورة، دون التطرق لجذورها السياسية والتعليمية.
نظرة "اللاجئ الجاهل" أصبحت شائعة في بعض الصحف الألمانية والتركية.
الحلول تركز على النتائج دون معالجة الجذور: النظام الذي خرّب عقل الطفل السوري.
الخاتمة: ثورة تبدأ من دفتر طفل
إن النضال من أجل سوريا الجديدة لا يبدأ فقط من الميدان أو من السياسة، بل من المدرسة. من الحصة التي يُسمح فيها للتلميذ أن يسأل، من الكتاب الذي لا يُقدّس فيه الحاكم، ومن المعلم الذي لا يكتب تقارير أمنية عن طلابه.
جيلٌ بأكمله دُجِّن، لكن ما زالت هناك فرصة لإنقاذ ما تبقى، لا من أجل اللاجئ فقط، بل من أجل سوريا التي تستحق أن تنهض بأبنائها، لا أن تُدفن في جهلهم.
تعليقات
إرسال تعليق