القائمة الرئيسية

الصفحات

إرث الأسد البائد – الجزء السادس: الطفولة المسروقة

محتوى الصفحة


    في زوايا هذا الوطن المكلوم، تنام براءة الأطفال على أرصفة الجوع، ويُختطف المستقبل من بين دفاتر المدرسة ليُباع في ورش الحدادة ومزارع التبغ. حين تسقط الدولة في مستنقع الفساد، وتسقط معها مؤسسات الرعاية والتأمين، يصبح الفقرُ قدراً، والعملُ طفولةً مكسورة، والتعليمُ رفاهية لا يجرؤ عليها إلا أبناء الطبقات المحظوظة. في سوريا الأسد، لم تكن المدرسة مكاناً لصناعة العقول، بل كانت وسيلة لتدجينها. وبينما تُسرق خزائن الدولة علناً، يُدفع الأب المُعدم ليدفع ابنه الصغير ثمناً لفساد لا يد له فيه. هذا هو الإرث الثقيل الذي هُجّر معنا إلى المنافي… إرثٌ يشوّه البراءة ويزرع البؤس في جذور أجيالٍ كاملة.

    المحور الأول: انهيار مؤسسات الرعاية الاجتماعية والتأمينات في سوريا في عهد البعث، تحولت مؤسسات الرعاية من أذرع خدمية إلى أدوات بيروقراطية منهارة. لم تكن التأمينات الاجتماعية إلا واجهة خادعة، بينما عجزت عن حماية كبار السن، وحرمت العامل البسيط من أدنى درجات الأمان. لم تكن هناك ضمانات حقيقية، ولا شبكات دعم وقت الأزمات. ومع صعود بشار، ازدادت الأمور سوءاً؛ إذ تحولت هذه المؤسسات إلى مزارع فساد جديدة، يُعيّن فيها الأقرباء، وتُهدر فيها الميزانيات، بينما تتساقط العائلات في جحيم الحاجة.

    المحور الثاني: تسرب الأطفال من التعليم – ظاهرة وطنية مغفَلة مع انعدام الدعم الاجتماعي الحقيقي، اضطر عشرات آلاف الأطفال السوريين لترك مقاعد الدراسة. الفقر والبطالة وتهميش الدولة جعلوا من المدرسة عبئاً إضافياً على الأسر. لم تُطلق الدولة حملات حقيقية للحد من التسرب، بل اكتفت بالتقارير الإعلامية التي تمجّد «نسب النجاح»، بينما كانت الصفوف تفرغ والورش تزدحم بالأيدي الصغيرة.
    المحور الثالث: عمالة الأطفال في الداخل السوري – بين البقاء والانهيار تحولت الطفولة في الداخل السوري إلى طاقة معطّلة ومُستنزفة. يعمل الطفل ساعات طويلة، يتعرض للإهانة، ويتعرض أحيانًا للاستغلال الجنسي. بدل أن يستثمر النظام في تعليم الطفل، استثمر في إبقائه أداة رخيصة في سوق العمل، وأداة مطواعة في دوائر التجهيل.

    المحور الرابع: أثر هذا الإرث في دول اللجوء – تركيا نموذجًا في تركيا، تكررت المأساة. عائلات سورية لا تملك أوراقًا قانونية، وآباءٌ معطّلون عن العمل. فكان الطفل هو البديل. نزل آلاف الأطفال السوريين إلى الورش والمعامل، يعملون لساعات طويلة بأجور بخسة. أُجبروا على ترك المدارس، أو لم يدخلوها أصلًا. وهكذا، انتقلت ثقافة "التعليم ليس أولوية" معهم من الداخل إلى المنفى.

    المحور الخامس: أوروبا ليست الجنة – ألمانيا مثالًا رغم أن أوروبا توفر خدمات تعليم إلزامي، إلا أن كثيرًا من العائلات السورية دخلت في صراع مع الواقع الجديد. بعضهم حاولوا استغلال النظام، فتهربوا من إرسال أطفالهم للمدارس، وأبقوهم للعمل في الأسواق، أو داخل البيوت. أما الآخرون، فتُركوا بلا دعم نفسي ولغوي حقيقي، ما زاد نسب الفشل الدراسي والتسرب.

    المحور السادس: حلب – المدينة التي نزفت طفولتها في حلب، عاصمة الاقتصاد السوري سابقًا، تفشى تسرب الأطفال بشكل مرعب، خصوصًا بعد انهيار البنية التحتية خلال الحرب. الآلاف من الأطفال أصبحوا يعملون في المصانع القديمة، في تصليح السيارات، وحتى في التسول المنظم. وسط تجاهل رسمي وصمت إعلامي، باتت عائلات حلبية تُخرج أطفالها من الصفوف لتدفع بهم إلى الشوارع. لم تنجُ أي طبقة اجتماعية من هذا المصير؛ الأغنياء تاجروا بأطفال الفقراء، والسلطة غضت الطرف، و"العار" أصبح عرفًا مقبولًا.

    المحور السابع: العمل الأسود والتهرب الضريبي في تركيا – سُبُل البقاء أم ثقافة متوارثة؟ لكي يحصل السوري على المساعدات الإنسانية، يتجنب تسجيل دخله الحقيقي. الآباء يعملون دون عقود، والأبناء يُزجون في أعمال بعيدة عن القانون. الهدف واضح: الحفاظ على كرت الهلال الأحمر، والاستفادة من دعم لا يكفي أصلًا. لكن الكارثة الأكبر تكمن في تطبيع هذا السلوك، وجعله جزءًا من ثقافة اللاجئ.

    المحور الثامن: ألمانيا – الاحتيال على النظام أم انسداد الأفق؟ رغم صرامة القوانين، يلجأ بعض السوريين للعمل الأسود والتهرب من التصريح، حتى لا تنخفض مساعدات الجوب سنتر. بعض العائلات تدفع بأبنائها للترجمة أو التوصيل بشكل غير قانوني. في الأفق، يبدو هذا السلوك امتدادًا طبيعياً لإرث تربى على انعدام الثقة بالدولة، وعلى أن الكذب على النظام ضرورة للبقاء.

    بين الأنقاض، نشأت أجيال لا تعرف الطفولة إلا من الصور. لم يُمنحوا حق التعلم، بل أُجبروا على العمل والنجاة. في سوريا الأسد، لم تُهدم المدارس فقط، بل هُدمت القيمة الأخلاقية للتعليم. وحين هرب السوري من جحيمه، حمل هذا الإرث معه إلى المنافي. نحن اليوم نواجه خطر أن نُنتج جيلاً مشوهًا، لا يؤمن بالعلم، ولا يعرف البراءة. إن لم نعترف بجذر المشكلة، ونتصدى لهذا الإرث بالوعي، فسنظل نكرر الكارثة، جيلًا بعد جيل.

    تعليقات