القائمة الرئيسية

الصفحات

إرث الأسد البائد – الجزء السابع: عبادة الفرد... من حافظ إلى بشار

محتوى الصفحة
    في كل بقاع الأرض، تُبنى الدول على مؤسسات، وتنهض الشعوب على أفكار وتنوعات، إلا سوريا الأسد، التي شُيّدت على صورة فرد، وحُوّلت إلى مسرح عبادة لصنم اسمه "القائد الخالد". لم يكن حافظ الأسد مجرد حاكم، بل أُلبس لبوس النبوة، وقدّس بمداد الخوف والدم، وتحوّل بشار من طبيب عيون فاشل إلى وريث للقداسة السياسية. في هذا الجزء السابع من سلسلة "إرث الأسد البائد"، نغوص في كواليس صناعة "الزعيم الإله"، ونكشف كيف أصبحت عبادة الفرد سرطانًا نُقل في دماء السوريين إلى تركيا وألمانيا وبلدان الشتات.

    1. من القائد إلى الإله: هندسة العقل السوري في عهد الأسد الأب منذ السبعينات، بدأ حافظ الأسد مشروع صناعة ذاته كرمز أبدي، متجاوزًا كل معاني الدولة. لم يكن المطلوب من المواطن أن يفهم السياسة أو يشارك في القرار، بل أن يكرّس حياته للثناء على القائد. ملصقات على الجدران، تماثيل في الميادين، صور في الفصول، وأناشيد تمجد "قائدنا إلى الأبد". لم يكن مجرد تمجيد، بل تأليه صريح يُذكر فيه الأسد في صلوات الصباح المدرسية أكثر من ذكر الله.

    2. تمجيد بالحديد والنار: دور أجهزة الأمن والإعلام كُسرت رقاب السوريين بقبضة الإعلام الأمني. لم يكن التلفزيون السوري يعرض نشرات، بل طقوس تبجيل. أغانٍ تمجّد القائد، تقارير تتحدث عن عبقريته، ومواد درامية لا يُذكر فيها اسم الوطن دون أن يُقرن باسمه. الأجهزة الأمنية بدورها كانت تتدخل حتى في صياغة الكلمات في حفلات المدارس والجامعات لضمان أن الولاء يغلب على المعرفة.

    3. الأسد في المدرسة والمقهى والشارع: الحياة اليومية كطاعة إجبارية لا مقهى دون صورة الأسد، لا كتاب مدرسي دون تمجيد، لا جدار يخلو من الشعارات، حتى البيوت الفقيرة لا بد أن تحوي صورة للرئيس كـ"تعويذة أمنية" تقي من غضب السلطة. هذا التمجد تحول إلى عرف اجتماعي؛ من لا يرفع صورة الأسد يُشك بولائه، وقد يُبلغ عنه.

    4. المناهج المدرسية: صب الأطفال في قالب الولاء تم تغيير المناهج لتركز على سردية تمجيد القائد. دروس التربية الوطنية كانت تفتتح باسم الأسد، وتُنهي بجملة "شكراً لك يا قائدنا". تم تغييب كل الشخصيات التاريخية السورية مقابل حضور طاغٍ للأسد وعائلته. الطفل السوري نشأ في عقلية ترى أن الوطن يبدأ وينتهي بالرئيس.

    5. التوريث السياسي: من دكتاتورية الأب إلى قداسة الابن في مشهد فاضح، تم تعديل الدستور خلال دقائق فقط لتمكين بشار من الرئاسة بعد موت والده. لم تُناقش كفاءته، بل اعتُبر استمراره ضمانة للبقاء، وكأن سوريا مزرعة عائلية. الإعلام ضخ عشرات الأغاني والقصائد في وصف "القائد الشاب"، ومؤسسات الدولة تحوّلت إلى مسارح بيعة.
    6. من التمجيد إلى النفاق الاجتماعي: تشويه الشخصية السورية البيئة التي نشأت في ظل هذا التبجيل زرعت ثقافة الكذب والنفاق في المجتمع. كل موظف ومدير ومعلم بات يتقن لعبة "الولاء الظاهري" من أجل الترقية أو الحماية. فُقد الصدق، وانهارت منظومة الأخلاق لصالح "من يكذب أكثر، يرتقي أكثر".

    7. إرث التبجيل في المهجر: سوريا داخل اللاجئ حين هاجر السوريون، لم يتركوا هذا الإرث خلفهم. في تركيا وأوروبا، ظهرت نُسخ جديدة من عبادة الفرد: "الزعيم الثوري"، "رئيس الجمعية"، "الشيخ الزعيم". العقلية نفسها التي تربت على عبادة الأسد، أعادت إنتاج ذاتها في سياقات جديدة، مكرسة ثقافة الولاء بدلاً من الكفاءة.

    8. السوريون في تركيا: الولاء بدل الكفاءة في كثير من روابط السوريين في تركيا، تحوّلت بعض الشخصيات إلى رموز غير قابلة للنقد. يختزل العمل الجمعي في اسم شخص واحد، ويُقمع المنتقدون كما كانت تفعل أجهزة الأمن. كثير من اللاجئين مارسوا الولاء الأعمى بدلاً من العمل المؤسسي، مستنسخين النموذج الأسدي.

    9. السوريون في ألمانيا: من هيبة الأسد إلى تبجيل زعماء الجالية حتى في الديمقراطيات، مارس بعض اللاجئين السوريين عقليات قديمة: رفض النقد، تمجيد المسؤول المحلي، والخوف من الاختلاف. هذا الإرث ظهر جليًا في منظمات اللاجئين التي تحولت أحيانًا إلى إقطاعيات صغيرة يرأسها شخص "لا يُسأل عمّا يفعل".

    10. السخرية والسقوط: هل انتهى زمن العبادة؟ بعد الثورة، بدأ الكثير من السوريين بكسر صنم التبجيل عبر الفن، الكلمة، والنكتة السياسية. تمزيق الصور، إسقاط التماثيل، وكتابات الجدران كانت أولى خطوات استرداد الفرد لوعيه. لكن الطريق ما زال طويلًا للتعافي من إرث نصف قرن من عبادة الفرد.

     لم يكن الأسد يحكم سوريا، بل كان يملأها بذاته، ويمنع عنها الأوكسجين لتتنفس صورته. هذا الإرث القاتل لا يزول بسقوط التمثال، بل يحتاج إلى ثورة في التربية، في الفكر، وفي النفوس. سوريا لا تحتاج زعيمًا جديدًا، بل تحتاج أن تُحرّر من فكرة الزعيم أصلاً.

    في الجزء القادم... نفتح ملف الإعلام البعثي وصناعة الأكاذيب الكبرى. ترقبوا المزيد من إرث الأسد البائد.

    تعليقات