القائمة الرئيسية

الصفحات

إرث الأسد البائد – الجزء الثامن: الإعلام البعثي وصناعة الأكاذيب الكبرى

محتوى الصفحة
    في بلاد تُقمع فيها الحريات، يصبح الإعلام سلاحًا لا لنقل الحقيقة، بل لدفنها. في سوريا، لم يكن الإعلام سلطة رابعة يومًا، بل ذراعًا أمنية بلباسٍ صحفي، سُخّر منذ أيام حافظ الأسد ليغسل الأدمغة، ويعيد تشكيل العقول على مقاس البعث والزعيم الأوحد. إنها جمهورية الأكاذيب التي امتدت من الصحف والبرامج إلى المسلسلات والمسرحيات، من التهليل للمنجزات الوهمية، إلى تزييف تاريخ أمة كاملة. هكذا صُنعت الأكاذيب الكبرى، وهكذا استمر إرثها حتى بعد الثورة. فما بين إعلام يلعق حذاء الحاكم وإعلام معارض يعيد إنتاج نفس الكارثة، ضاعت الحقيقة، وتاه السوريون بين روايات مشوهة وأصوات مأجورة.
    المحور الأول: الإعلام البعثي بوصفه أداة للسلطة منذ انقلاب حافظ الأسد، تحوّل الإعلام إلى بوق حزبي يخضع لما يسمى "التوجيه المعنوي"، وهي رقابة صارمة تحدد ما يجب أن يُقال، ومتى، وكيف. لا مكان للرأي، ولا وجود للحقيقة، بل شعارات ومقالات تمجّد الحزب والقائد. الصحف الرسمية كـ"تشرين" و"الثورة" لم تكن تنشر أخبارًا، بل أناشيد ولاء. أمّا المراسلون، فكانوا جنودًا في معركة تلميع الصورة، لا في ميدان الحقيقة.

    المحور الثاني: الإعلام في عهد حافظ الأسد سادت ثقافة الخوف والرقابة، وتمّ تأميم الإعلام بشكل كامل. لا صحيفة خارج مظلة البعث، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة. كل برنامج، كل نشرة، كل صفحة جريدة، كانت تبدأ وتنتهي بتمجيد القائد. وأي خروج عن النص يُقابل بالاعتقال أو الفصل أو الاختفاء القسري. تحوّل حافظ الأسد إلى "رمز خالد" في كل زاوية من الإعلام، حتى باتت صورته تُقدّس أكثر من الوطن نفسه.

    المحور الثالث: تسييس برامج الأطفال والشباب تم استخدام برامج الأطفال كأدوات لتجنيد الطفولة مبكرًا في جيش العقيدة البعثية. من برامج "من البعث إلى الطلائع" إلى "شبيبة الثورة"، كان الأطفال يُعلَّمون الهتاف قبل الأبجدية، ويتعلمون كيف يُحبّون القائد قبل الوطن. لم يكن هناك تعليم، بل تلقين شعارات وصناعة ولاء أعمى.

    المحور الرابع: المسرحيات والمسلسلات أدوات للتمجيد المسرح السوري، الذي كان منبرًا للنقد في الستينيات، خضع تمامًا بعد استيلاء الأسد الأب. لم تعد المسرحيات تعكس نبض الشارع، بل صارت تخدم الدعاية السياسية. حتى أعمال دريد لحّام التي بدأت ناقدة، تم احتواؤها تدريجيًا. في مسرحية "غربة" مثلاً، غُيّبت دلالات الثورة الحقيقية، وسُوّق لفكرة أن الحل دائمًا بيد الحاكم العادل، أي الأسد.

    المحور الخامس: دريد لحّام… من فنان شعبي إلى بوق سلطوي في البداية، كان دريد لحّام صوتًا للناس. لكنه سرعان ما انقلب إلى أحد أذرع النظام الثقافية. من المسرح إلى التلفزيون، قدّم أعمالًا تُروّج لحكمة القائد وضرورة التوحد حوله. صار يهاجم الثورات، ويمجّد "الصمود الأسطوري". وفي مقابلاته، بات مدافعًا صريحًا عن النظام، حتّى بعد المجازر.
    المحور السادس: الإعلام في عهد بشار الأسد جاء بشار بشعارات الانفتاح، فأنشأ قنوات مثل "الدنيا" و"سما" و"الإخبارية". لكنها كانت نسخًا محسّنة من إعلام أبيه، تتحدث بلهجة ناعمة، لكنها تنقل نفس الرسائل. استخدم الإنترنت كوسيلة مراقبة، لا حرية. الصحفيون الجدد أُعيد تأهيلهم على يد الأجهزة الأمنية، ليكتبوا بلغة حديثة، تخفي القمع خلف الكلمات.

    المحور السابع: تسييس المسلسلات والدراما في عهد بشار الأسد دخل الأمن السوري إلى غرف الكتابة الدرامية. كل مسلسل، كل فكرة، كانت تمر على الرقابة. من "غزلان في غابة الذئاب" إلى "الولادة من الخاصرة"، كانت هناك مساحة للنقد الجزئي، ولكن دون المساس بجوهر السلطة. الدراما التي بدت جريئة، كانت خاضعة لضوابط تُحدد سقف الجرأة بدقة، وتُبقي القائد في الظل النقي.

    المحور الثامن: الإعلام كأداة تحريض ضد الثورة منذ انطلاق الثورة، تحوّل الإعلام الرسمي إلى مصنع شيطنة. فُبركت الروايات، وظهرت اعترافات المعتقلين على الهواء، وأُنتجت قصص عن "المندسين" و"الإرهابيين". تم إخفاء المجازر، وتكذيب الشهود، وتضليل الرأي العام، حتى باتت بعض الفئات تصدق أن الثورة كذبة.

    المحور التاسع: الإعلام المعارض… نسخة مشوّهة من الأصل للأسف، بعض مؤسسات الإعلام المعارض لم تخرج من عباءة التقديس. تمجيد الفصائل، تخوين المختلف، نقل الإشاعات دون تحقق. البعض صار يتحدث بلغة النظام، ولكن بلون آخر. الكارثة أن إعلام الثورة لم يؤسس لحرية، بل أعاد إنتاج الرقابة والاصطفاف السياسي.

    المحور العاشر: تأثير هذا الإرث الإعلامي على اللاجئين السوريين اللاجئون السوريون اليوم يعيشون في عالمين: عالم الإعلام الرسمي الذي يراهم خونة، وعالم إعلام معارض لا يعكس واقعهم. انقسم السوريون بين روايات متضاربة، وفقدوا الثقة بأي وسيلة إعلام. صار الوعي مشوشًا، والنقاش مستحيلًا.

    إن أخطر ما فعله نظام الأسد، لم يكن السجون ولا البراميل، بل تحطيم الحقيقة في وجدان السوريين. صنع إعلامًا بلا ضمير، ودرّب أجيالًا على تلقي الكذبة كأنها قدر. وحين قامت الثورة، لم نجد إعلامًا حرًا يدعمنا، بل وجدنا أكوامًا من التزييف المقابل. ما لم نكسر هذه الماكينة، ونبني إعلامًا حرًا مهنيًا، فلن نتحرر. فالكذبة، حين تُكرر خمسين عامًا، تُصبح واقعًا في نظر الخائفين. ولكنها لا تبني وطنًا، ولا تخلق وعيًا. والإرث الأشد فتكًا من الأسد، هو هذا الإعلام المسموم الذي يسكن عقولنا إلى اليوم.

    تعليقات