المقدمة: الكبرياء المسموم وصناعة الإنسان الأعلى
في جمهوريات القمع، لا يُبنى الاستبداد فقط بالسجون والمشانق، بل بالأوهام. أحد أخطر هذه الأوهام هو ذلك الذي يزرع في قلب المواطن شعوراً بأنه أرقى، أذكى، أطهر من غيره فقط لأنه ينتمي لمدينة أو طائفة بعينها. في سوريا الأسد، لم يكتفِ النظام بترويع الناس، بل صنع نخبة وهمية – لا بالمنجز أو الفكر، بل بالهوية الجغرافية أو الانتماء الطائفي.
هكذا، تحوّل السوري من مشروع مواطن إلى مشروع متعجرف، يتعامل مع الآخرين داخل الوطن نفسه كما لو أنهم درجات أدنى من سلمٍ شُيّد على يد البعث.
المحور الأول: حلب المتفوقة... صنيعة الأسد لا التاريخ
منذ سبعينيات القرن الماضي، بدأ النظام يروّج لفكرة أن حلب "شيء آخر":
المدينة الصناعية الأولى، رغم أن النظام قتل الصناعات المحلية لاحقًا.
مهد الحضارة، رغم إهماله لمعالمها التاريخية.
مدينة "الأخلاق والتدين والكرم"، رغم ضرب النسيج الاجتماعي بالدعاية الأمنية.
تحول الاعتزاز المشروع إلى تفوق مَرَضي، خصوصًا في تعامل شريحة من الحلبيين مع باقي المحافظات، وعلى رأسها إدلب:
نُكات شعبية تسخر من لهجة إدلب وأزيائها.
رفض تزويج بنات حلب لأبناء إدلب وريفها.
شعور بأن الثقل الثوري كان من الريف، وبالتالي لا يستحق القيادة أو التمثيل.
حين انتقلت الثورة إلى حلب، تعرّى هذا الغرور، واكتشف كثيرون أنهم ضحايا الوهم لا سادته.
المحور الثاني: دمشق... العاصمة التي تغرّبت عن شعبها
في دمشق، صنعت السلطة نموذجاً آخر من التعالي: العاصمة التاريخية التي ترى نفسها أرقى من سائر الوطن. هذا لم يكن دائمًا حال الشاميين، لكنه أصبح سلوكًا مستبطناً نتيجة سياسات النظام:
التوظيف أولًا لأبناء دمشق.
الترويج لثقافة "دمشقي وأفتخر".
النظرة الدونية لأرياف سوريا ولمن يتحدث بلهجات غير "دمشقية نظيفة".
دمشق التي صدّرت النخبة السياسية والثقافية، أُفرغت من مضمونها الوطني، وتحولت لمدينة تتفاخر بتراثها أكثر مما تدافع عنه، وغدت عنوانًا لـ "التحضّر المُتكلّس" الذي أراده الأسد قناعًا للجمود.
المحور الثالث: التوريث المناطقي للمناصب
من حلب ودمشق إلى اللاذقية والسويداء، باتت المناصب تُورّث لا تُمنح. أبناء المدينة الكبرى يرون أنفسهم أحق بإدارة المؤسسات، حتى في بلدان اللجوء. لاحقًا:
في منظمات المجتمع المدني، يُختار القادة من حلب ودمشق لأنهم "أكثر قبولاً دوليًا".
في المجالس المحلية، تُقصى أصوات إدلب والرقة ودير الزور لأنها "ليست ناضجة بعد".
استمرار وهم أن "المدن الكبرى تفهم بالسياسة، أما الباقي فهم عشائريون أو عاطفيون".
بهذا الشكل، كرّس النظام ثقافة استعلائية انتقلت من الداخل إلى الشتات، وخلقت صدامًا طبقيًا بين لاجئين من وطن واحد.
المحور الرابع: الكِبر يتهاوى عند أبواب اللجوء
حين حمل السوريون هويتهم إلى أوروبا وتركيا، اصطدمت قيم التفوق المزعومة بجدار الواقع:
شاب من حي راقٍ في دمشق يعمل نادلاً بجوار شاب من ريف حماة.
من كان يرى نفسه "أعلى" أصبح رقماً في طابور المساعدات.
إدارات الهجرة لم تسأل عن الشهادة ولا اللهجة، بل عن الملف والأوراق.
كثير من السوريين خاضوا صراعات داخلية مع إرثهم الثقيل، فإما تحرروا منه، أو بقوا سجناءه في وحدتهم ورفضهم للاندماج مع مجتمعهم السوري الجديد.
المحور الخامس: الإعلام والمعارضة وتمجيد الأطراف ونبذ المركز
رغم أن الثورة انطلقت من مناطق مهمّشة، إلا أن إعلام المعارضة ومؤسساتها انزلقت بدورها إلى نقيض جديد من التحيّز. في سعيهم لإنصاف ريف حمص وإدلب ودير الزور، وقعوا في فخ شيطنة المركز:
تمجيد دائم لأهالي إدلب وحمص باعتبارهم "الوقود الحقيقي للثورة".
خطاب ضمني بأن أهل حلب ودمشق إما متأخرون أو متخاذلون.
تهميش في التغطية الإعلامية لقادة الرأي من المدن الكبرى، ووصمهم بـ "الانتهازية أو التلوّن السياسي".
بدلاً من بناء خطاب وطني شامل، أعادت المعارضة إنتاج منطق الأسد ولكن بمرآة معكوسة.
المحور السادس: كيف انعكس ذلك على السوريين في تركيا؟
في تركيا، لم تكن هذه التصدعات نظرية، بل واقعية في حياة اللاجئين:
في غازي عنتاب واسطنبول، يُقسم السوريون أنفسهم إلى طبقات على أساس المدينة الأصلية.
أبناء إدلب يتحدثون بتوجّس عن نظرة أهل حلب لهم في الجمعيات والمدارس.
حوارات يومية تدور حول: "من يحق له تمثيل الجالية؟" و"من الأكثر تهميشًا أو تضحية؟".
هذا التمايز لم يُخلق من فراغ، بل ورثه السوري من ثقافة النظام، واستمر في تبنّيه في الشتات.
اللاجئون في أوروبا... حين يصطدم الإرث بالعدالة
في دول مثل ألمانيا، فرنسا، السويد، وهولندا، دخل السوريون مجتمعات يحكمها القانون والمساواة أمام الدولة. لكن إرث التمييز الداخلي ظل حيًا:
في المدارس: يروي مدرسون سوريون كيف يسخر أطفال من أحياء دمشق الراقية من زملائهم من الرقة أو دير الزور، حتى في الشتات.
في مراكز اللجوء: يطلب البعض ألا يُوضعوا في غرف مشتركة مع "ناس من مناطق معينة".
في الجمعيات والمبادرات: يهيمن خطاب "نحن الحضاريون وهم المتخلّفون" على تمثيل السوريين في المؤسسات الألمانية.
تسببت هذه الممارسات في إحراجات دبلوماسية، وصعوبات في العمل الجماعي، وابتعاد كثير من الأوروبيين عن دعم اللاجئين السوريين بعد أن رأوا فيهم مجتمعات منقسمة على ذاتها.
لكن في المقابل، نشأت مبادرات مضادة من مثقفين ولاجئين شباب يعملون على تفكيك هذه الرواسب. في برلين، قام مشروع "سوريا لنا جميعًا" بتوثيق شهادات عن التمييز المناطقي بين السوريين، وفتح منصات حوار بينهم، بدعم من بلدية المدينة.
في النهاية، تُظهر تجربة السوريين في أوروبا أن التخلص من إرث الأسد البائد لا يتم فقط بإسقاط النظام، بل يحتاج إلى ثورة وعي تبدأ من الذات.
---
الخاتمة: تفكيك عقدة المدينة العليا
الإرث الأخطر الذي خلفه الأسد ليس فقط في الخراب أو الموت، بل في السمّ الذي زرعه في وعي السوريين: أن بعضهم أفضل من بعض. هذا الوهم، حين يتسلل إلى معارضتك، إلى خطابك، إلى اللاوعي الجمعي، يتحول إلى نسخة أخرى من النظام.
علينا أن نعترف بأن التمييز الداخلي لم يكن فقط من النظام، بل جرى تبنيه شعبيًا واستُثمر فيه. الخلاص يبدأ حين يقرّ كل منا أنه ليس أفضل من الآخر إلا بما يُقدّمه من عدالة وحب للوطن. سوريا لن تُبنى بأبناء المدينة الكبرى وحدهم، بل بكل من دفن تعاليه ورفع أخاه ليبني معه وطنًا من الرماد.
تعليقات
إرسال تعليق